عواطف حائرة
6/5
السبت
10 / ربيع الأول /1435هـ
Al-muneef
.s. m عواطف حائرة 6/5
كلمات
الامير الشاعر / عبدالله الفيصل ....غناء أم كلثوم
ثورة
الشك
وَبِي مَمَّا يُسَاوِرُنِي كَثِـيرٌ
مِنَ الشَّجَـنِ المُؤَرِّقِ لاَ تَدَعْنِي
تُعَذَّبُ فِي سبيلِ الشَّكِّ رُوحِي
وَتَشْقَى بِالظُّنُـونِ وَبِالتَّمَنِّي
أَجِبْنِي إِذْ سَأَلْتُكَ هَلْ صَحِيحٌ
حَدِيثُ النَّاس : خُنْتَ؟ أَلَمْ تَخُنِّي
انطلاقاً
من الإحساس بعبودية الحب ، يبوح الفيصل من طرف واحد لمحبوبه كما تعود متوسلاً ، ومتذرعاً
في الوقت نفسه ، بما يساوره من شجن ، جعله – في صورة تجسيدية – هذه المرة مؤرقاً ،
ينطق بجبروته . والتجسيم هو ( إيصال المعنى المجرد مرتبة الإنسان في قدرته واقتداره
) . وهنا يأتي التوسل : ظاهره المواجهة ، وباطنه الانكسار ، من خلال قوله : ( لا تدعني ) ، وقد كرس الإحساس
بالانكسار – حيرة وقلقاً – فعلا العذاب والشقاء في البيت التالي ، اللذان جاءا مضارعين
يوحيان بتجدد عذاباته وانكساراته ، الأول : (تُعَذَّبُ) جاء مبيناً للمجهول مرتبطاً بالشك ، والآخر
: (تَشْقَى) جاء مرتبطاً
بالظنون وبالتمني ، وكلاهما مرتبط بعالم الروح المعذبة بفعل بفواعل مجهولة عكسها الفعل
المبني للمجهول (تُعَذَّبُ)
إنها فواعل تصالحت على روحه التي توحدت بجسده ، ليصطليا معاً – وفق صورة تجسيدية ناطقة
تحيل المجرد مجسداً – في لهيب الشك ، وهنا يشتد أوار الشك بروزاً بهذه الصورة ، يستقرئ
خبيئة نفسه وروحه ، التي شخصها وأنسنها في صورة معذب ، يشقى – في مفارقة تصويرية –
على حد سواء : بالظنون التي مصدرها الشك / الإحساس بالخيانة ، وبالتمني مغالطة / مخاتلة
/ كذباً على النفس المحبة .
ويظل
الفيصل ( أو سيزيف المعاصر )
في دائرة الشك وحمأته ، وهو يختم قصيدته كما بدأها ، حين يواجه محبوبه مرة أخرى ، بما
قاله الناس من أمر خيانته ، وكأنه غير قادر على فعل مواجهة نفس محبوبه ، بما يعتمل
في نفسه هو ، دون نفس الناس ، أو دون قولهم . ولما واتته الشجاعة أخيراً – عبر استفهام
إنكاري يبعثه على الإقرار ، بقوله : (لاَ تَخُنِّي) – جعل استفهامه نهاية لقصيدته ، وبداية لسرمدية عذابات
جديدة في ثورة شكه ، ليظل بوحه بحيرته أسئلة ، لا يجد لها جواباً عند محبوبه الغائب
المُغيب . وكأنه كُتب على عبد الله الفيصل / سيزيف المعاصر أن يظل مُثقلاً بعذاب (
صخرة الشك ) ، يدحرجها
في سرمدية من العذاب ، من سفح ( جبل
الحب ) إلى قمته . لقد لعب التشكيل بالأصوات – إيقاعاً – في هذه القصيدة ، دوراً
بالغ الأهمية ، من حيث رسوخها معايشة عند المتلقي العربي ، وهو يسمعها مُغناة بصوت
صادق لــ ( أم كلثوم )
، التي عُرف عنها ذوقها الصحيح في اختيار ما تغنيه لأجيال ذواقة . هذا وقد تنبه علماء
الأصوات من اللسانيين المهتمين بتحليل الخطاب الشعري وفق توظيف الأصوات ، إلى أهميتها
في إنتاج الدلالة ، فالدكتور قاسم البريسم يرى : ( أن الشاعر لا ينفصل عن الواقع ،
فهو يتحسس العالم من خلال الخلق والإبداع ، إعادة تكوينه باللغة ، بالرغم من أن هذا
الخلق فردي ، ويكتنفه الغموض إلى حد ما ، وأن عناصر المعنى تنبع من الأصوات التي تزيد
المعنى أو تنقصه من خلال تشابكها الذي يظهر في المقاطع والألفاظ والسياق ، وأن التأثير
الصوتي للنص يأتي من اتحاد الكلمات التي يتضافر في تكوينها الصوت والمعنى ، والتي تؤدي
دوراً كبيراً في تذوق المتعة في الأدب ) .
ويمكن
أن توقفنا ظواهر صوتيه مهمة في قصيدة ( عواطف حائرة ) ، عند ( شعرية الأصوات التي تميز بها النص تأثيراً في
التلقي ، منها : حروف المد أو
اللين ، أو الحركات الطويلة ( الألف والواو والياء ) ، ولكل
من النقاد واللسانيين رأي في دورها نتاجاً للدلالة ، ( قد يكون لبعض الأصوات اللغوية
إيحاء خاص في بعض السياقات المعينة ، فحروف المد - مثلاً - في سياقات معينة تقوي من إيحاء الكلمات والصور) .
والمسترجع
للقصيدة في قراءة متأنية ، قد يشعر أن حروف المد فيها تشبه نواحاً مكتماً ، يخرج أشبه
بزفير ، ينفس فيه الشاعر عن جوانية متلظية بنار الشك والحيرة ، ولنستمع – مداً بالألف – إلى الكلمات :
(أَكَادُ) مقترنة بالشك ، و (أُغَالِطُ) مقترنة بالسمع ، و (يُسَاوِرُنِي) مقترنة بالشجن ، ثم لنستمع – مداً بالواو – إلى الكلمات :
(يَقُولُ) مقترنة بالناس ودواخلهم الشاكة ، و
(رُوحِي) مقترنة بالعذاب والشك ، و (الظُّنُـونِ) مقترنة بالشقاء ، ثم لنستمع مداً بالياء – علاوة على كلمات
القافية ورويها الممدود بالياء
– إلى الكلمات : (فَاتَنِي)
المقترنة بالقدر ، و (شَقِيـتُ) المقترنة بحسن الظن ، و ( لهيب ) المقترنة بالعذاب .
إن الكلمات
السابقة في سياقها تقوي لدى المتلقي – إذا ما رددها إنشاداً – الإيحاء بالألم / القلق / الحيرة
. وعن القيمة الإيحائية
لحركات المد يقول
د. محمد فتوح : ( إن حركات المد
– كما هو معلوم – من أكثر الأصوات سهولة في النطق ، ولطفاً في الأذن ، وطواعية للإيحاء ، لأن ما فيها من سعة وامتداد يتناسب مع حالات
الشجن الهادئ العميق ) .
ولعل
هذا يتناسب إلى حد مقبول من نص الفيصل : ( عواطف حائرة ) .
وقد
وفر وجود أصوات المد للمتلقي
وضوحاً سمعياً ، جعله يعايش
تسمع إيقاعات الأنين والشجن من
جوانية نفس الشاعر المكلومة ، ذلك أن ( الأصوات الصائتة ( الفتحة والفتحة الطويلة
، والضمة والضمة
الطويلة ، والكسرة والكسرة الطويلة ) تعد من أوضح الأصوات
في لغتنا العربية ، ويعود السبب في وضوح هذه الأصوات إلى الحزم الصوتية ، التي تشكل طبيعتها
الفيزيائية ) .
وقد
راوح حس الفيصل الشاعر بإيقاع الأصوات ، بين المجهور والمهموس في قصيدته ، وعرف شعوره للأصوات موقعها
الموفق بين الجهر والهمس ، إذ ( يلعب الجهر دوراً إيجابياً
في وضوح الصوت ، في حين يجسد الهمس دوراً سلبياً
له ، لأن علو الصوت يعتمد على معدل ذبذبة الأوتار الصوتية ، فكل انغلاق وانفتاح
للأوتار الصوتية في الحنجرة ، يؤدي إلى ظهور قمة في ضغط الهواء ، لذلك يكون الصوت المجهور
أوضح من الصوت المهموس
) .
وسوف
نقف عند ما نستجلي به من النص توظيف كل من الهمس والجهر لإنتاج مزيد من دلالته .
غدا
نكمل عناق السحاب لجمال صوت اللغة العربية
في النبر والتنغيم والتفخيم والإيحاء .. والإحساس بمخارج الألفاظ تنغيماً ،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق