الجمعة، 10 يناير 2014

عواطف حائرة 6/4

عواطف حائرة 6/4

الجمعة 9 / ربيع الأول /1435هـ
Al-muneef .s. m            عواطف حائرة 6/4

كلمات الامير الشاعر / عبدالله الفيصل ....غناء أم كلثوم
ثورة الشك
ولذلك حق له أن يصور تأثيرها النفسي المتسلط – في صورة تجسيدية – بأنها أقضت مضجعه ، وأنها – في صورة تشخيصية – استعبدته قلقاً / حيرة / اغتراباً / تشفياً ، وكأن عبودية الحب التي يعلن عنها بطريق مباشرة وغير مباشرة ، قد تملكته ، إذعاناً واكتئاباً .
قد صور في منظومة ( الطواف ) الذي يوحي هنا بدوار في حلقة مفرغة ، أن الليالي تجسدت في ركب يطوف البلاد محدثاً عن أمر ما كان من حميا حبهما شكاً / هجراً / خيانة . أن (ظِلاَلُ شَكٍّ) أوحت له بصورة أبدعت من الليالي ركباً يرحل في الدنيا ، يحدث عن أمره مع المحبوب . ركب الليالي القلقة (يُحَدِّثُ) عن أمر الشاعر فيما يتناقله الناس ، بما ألقوه من ظلال شك ، صورت الشك فضيحة ، جعل ركب الليالي يشيعها في الأسمار . ومع البيت العاشر تضغط وطأة الشك ، وتتخذ ثورة الشك بعداً أكثر مواجهة ، وإن لم يكن أكثر صراحة ، حين تتفلت أعصاب الشاعر قائلاً :

عَلَى أَنِّي أُغَالِطُ فِيكَ سَمْعِي
وَتُبْصِرُ فِيكَ غَيْرَ الشَّكِّ أُذني

إن تفلت أعصاب الفيصل وهو يواجه نفسه ومحبوبه ، يقابله تفلت لغته التي عهدناها فصيحة التراكيب في شعرية بسيطة . إن قوله : (عَلَى أَنِّي) ينقلنا إلى تركيب نثري أقرب إلى عامية الاستخدام مجافاة لشعرية الفصاحة ، دنواً به إلى لغة الإعلام التي تجنح إلى الخطابة . غير أن البيت في عمومه ، يأتي تناصاً مع البيت السابع ، أي أن الشاعر يتناص مع نفسه ، ما يعلن عن مفارقة في أمر شكه . فإذا كان في البيت السابع قد أعلن أنه يكذب في محبوبه كل الناس قلبه ، وتسمع فيه كل الناس أذنه ، فإنه هنا يغالط – دون الناس – سمعه ، وتبصر فيه – دون الناس ، بل دون الشك – عينه . إن فعل المغالطة (أُغَالِطُ) الذي جاء مضارعاً يدل على تجدد حدوثها واستمراريته ، ينم عن معرفة الإنسان بصحة ما يريد أن يضحك به على نفسه ويقينه ، هروباً من فعل المواجهة الصريحة مع الحقائق التي تتيقنها نفسه ، دون أقوال الآخرين ، وما ذلك إلا ملمح آخر من حيرة شاعر يجلد ذاته ويعذبها .
وإذا كانت اللغة قد تفلتت فصاحة عند الشاعر من جانب ، فإنه استثمرها في بساطتها فصيحة من جانب آخر كما سبق ، ويستبين سبيل ذلك أكثر من خلال شعرية بساطتها في قوله : (وَتُبْصِرُ فِيكَ غَيْرَ الشَّكِّ عيني ) . في الصورة تبادلاً في معطيات الحواس ، حين يقول : ( وجعل يبصر بعينه (غَيْرَ الشَّكِّ) الذي لا يبصر بالعين ، وذا ملمح يندرج في تبادل معطيات الحواس ) . وفي رؤية أخرى الصورة تجسيداً ، أن تراسل الحواس أو تبدل معطيات الحواس ، إنما يتم تبادلاً بين ما يخضع مباشرة تحت إدراك الحواس ، فتراسل الحواس : ( معناه وصف مدركات حاسة من الحواس بصفات مدركات حاسة أخرى ، فنعطي للأشياء التي ندركها بحاسة السمع صفات الأشياء التي ندركها بحاسة البصر ، ونصف الأشياء التي ندركها بحاسة الذوق بصفات الأشياء التي ندركها بحاسة الشم ، وهكذا تصبح الأصوات ألواناً ، والطعوم عطوراً ) . أي أن تراسل معطيات الحواس يدخل دائرة الانتقال بينها إدراكاً لشيء محسوس . أما كون الفيصل يبصر بعينه (غَيْرَ الشَّكِّ) ، الذي لا يُبصرُ بالعين ،

فإن هذا الذي لا يُبصرُ بالعين شيء لا يخضع لحاسة بعينها ، تذهب النفس في تفسيره كل مذهب ، ولكنه ما دام قد وقع تحت طائلة البصر – ولم ينص عليه الشاعر صراحة – فقد تحول من شيء مجرد (غَيْرَ الشَّكِّ) إلى شيء محسوس ، يخضع للرؤية بالبصر مجازاً ، وذلك أقرب للتجسيد ، وهو : ( تقديم المعنى في جسد شيئي ، أو نقل المعنى من نطاق المفاهيم إلى المادية الحسية ) . وإذا ما تأملنا وصف الفيصل لما يبصره على أنه (غَيْرَ الشَّكِّ) ، فربما أوقفنا هذا الوصف عند ملمح سايكولوجي ، ينفذ فنياً إلى خلق دلالة مهمة ، ذلك أن (غَيْرَ الشَّكِّ) يعني في ظاهر المعنى هو : اليقين / الثقة / الطمأنينة ، فلماذا لم يعبر الفيصل بأي من هذه الصفات فيما أبصره في حبيبه ؟! .
إن الشاعر في وصفه لما رآه من محبوبه بأنه ( شيء غَيْرَ الشَّكِّ) ، صادق مع نفسه وفنه معاً ، في اتساق مع مبدأ المغالطة لما يسمع ويرى ، لأن مفردة الشك أصبحت جزءاً من تكوين نفسه ، يتخلص منها مستبدلاً بها مفردة ( اليقين ) ، أو ما يدور في فلكها ، وإن بدا كذباً / مغالطة من المتيقنين بنفسه – لا وفق ما يقوله الناس – في صدق حب محبوبه . وربما لو استبدل الشاعر لغوياً ( اليقين ) بـ (غَيْرَ الشَّكِّ) ، لأفسد انسجاماً يسري في نسق قصيدته فنياً وسط ثورة شكه ، التي ظل الشك يضرب جنباتها ، حتى ( آخر بيت ) ، لأنه لم يهتد إلى يقين . ويجيء البيت التالي ( الحادي عشر ) ، متخذاً في سبيل الحيرة أمام عواطف ملتاعة ، بعداً أكثر اتساقاً مع مبدأ المغالطة والتغاضي المؤلمين ، حين يقول :

وَمَا أَنَا بِالمُصَدِّقِ فِيكَ قَوْلاً
وَلَكِنِّي شَقِيـتُ بِحُسْنِ ظَنِّي

إن الشاعر يتخذ من اللغة في حيز المفارقة التصويرية ، وسيلة تعذيب وجلد لذاته الشاكة ، فهو أشبه بمن ينكأ جرحه بيديه . إنه يؤكد بالنفي ، وحرف الجر الزائد ، ما يقال عن أمر خيانة محبوبه ، فحرف الباء هو من حروف الجر الزائدة ، وعن الزائد من حروف الجر يقول النحاة : ( الزائد ما ليس له معنى خاص في سياق الجملة ، بحيث يمكن الاستغناء عنه فيها ، وإنما يؤتى به لمجرد تأكيد الكلام فقط ، كما أنه لا يحتاج إلى عامل يرتبط به من فعل أو شبه فعل ) .
وإذا كانت أنا الشاعر في شطر البيت الأول قد برزت ضميراً يستقرئ ما في ضمير المحب الحائر ، وفق أساليب مؤكدة بقطعية اليقين في الظاهر ، فإن ( لكن ) الحرف الناسخ المتصلة به ياء المتكلم – تعبيرا عن هذه الأنا – تدخل بنا في مفارقة فادحة . 
إذ إن حرف ( لكن ) يفيد الاستدراك ، ومعناه التعقيب على كلام سابق برفع ما يتوهم ثبوته ونفيه .
إن الاستدراك هنا بحرف ( لكن ) يأتي ناطقاً – في لغة المفارقة – بحيرة نفس الشاعر ، الذي لا يقر به قرار حول حكم يتخذه قلبه المضطرم ، فهو باستدراكه يرفع ما يتوهم ثبوته ونفيه ، ولو بدا في الشطر الأول مؤكداً . وهنا تدخل بنا هذه المفارقة إلى أخرى أكثر فداحة ، تعري جانباً من خبيئة نفسه الحائرة الشاكة ، حين يجعل الاستدراك سبيله إلى أن ( يشقى بحسن ظنه ) ، مزجاً بين متناقضات تبني لُحمة تلك المفارقة ، إذ كيف للإنسان أن يشقى بحسن ظنه ؟!
إن حسن الظن يكون مدعاة للنعيم وليس للشقاء ، بما يبين عن نفس مطمئنة / راضية / واثقة . ولكن في منطق الحائرين المغالطين لأنفسهم في سبيل حب يُعمي ويُصم ، يصبح مقبولاً أن يتحول أمثال الفيصل إلى أبطال الأساطير مثل ( سيزيف ) ، وقد كُتب عليهم الشقاء بعذاب الحب ، حين يتحول حسن الظن – مغالطة ومخاتلة للنفس – إلى شقاء سرمدي كصخرة ( سيزيف ) .
ووفقاً للتصور السابق شقاء بحسن الظن وحميا الشك ، كان منطقياً – حيث لا منطق لفعل الشاعر – أن يبوح بجوانية نفسه التي كُتب عليها الشقاء ، مختتماً قصيدته بقوله في ثلاثة الأبيات الأخيرة :

غدا نكمل لنكتشف سحر الألفاظ عندما ينبع المعنى من إداء الأصوات ..
وتذوق متعة الكلمات عندما تتشكل بالأصوات إيقاعاً .. بصوت أم كلثوم ..
وأهمية توظيف الأصوات في إنتاج الدلالة ،



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق