عواطف حائرة 6/3
الخميس
8 / ربيع الأول /1435هـ
Al-muneef
.s. m عواطف حائرة 6/3
كلمات
الامير الشاعر / عبدالله الفيصل ....غناء أم كلثوم
ثورة
الشك
يبدو
أنها تخيب وفق مسعى طال زمنه ، وكاد معه شبابه أن يولي إلى غير عود :
وَقَدْ كَادَ الشَّبَابُ لِغَيْرِ عَوْدٍ
يُوَلِّي عَنْ فَتَىً في غَيْرِ أَمْنِ
مرة
أخرى يطل فعل المقاربة (كَادَ)
، ولكنه هنا بصحبة الزمن ، زمن الشباب / اسم كاد الذي يقاربه حدوثاً فعل التولي ، ليقربه
إلى الشيخوخة / الموت / موت الحب / موت اليقين ، فبعد أن كان شبابه يخطو في البيت السابق
بخطى الشباب المطمئن الآمن ، أصبح الشباب – في مفارقة تصويرية فادحة – يولي بفعل قهر
الزمن ، في غير أمن واطمئنان ، ليدخل الشاعر بفعل الزمن مرة أخرى في دائرة الشك / الخيانة
/ القلق / غربة الروح / الشيخوخة / الحاضر القاتم / عبودية الحب . ويمكن أن تفيدنا
المعاجم العربية شيئاً مهماً في نتاج الدلالة ، ففي المصباح المنير : ( الفتى : العبد
، وجمعه في القلة فتية وفي الكثرة فتيان... والأصل فيه أن يُقال للشاب الحدث، فتى
، ثم استعير للعبد وإن كان شيخاً ، مجازاً ، تسمية باسم ما كان عليه ) ولعل هذا يتسق
على نحو من الأنحاء مع موقف شاعر شيخ ، أفنى زمناً - مسكوتاً عما حدث فيه - سعى فيه
عبداً يستوثق من صدق موقف المحبوب من هواه !! .
وبدءاً
من البيت الخامس ، يحتدم الصراع بين الزمن وعواطف الشاعر الحائرة ،متخذاً شكلاً درامياً
، ولكن الزمن يتشخص في صورة قدر ، رسم الشاعر صورته على النحو التالي :
وَهَا أَنَا فَاتَنِي القَدَرُ المُوَالِي
بِأَحْلاَمِ الشَّبَابِ وَلَمْ يَفُتْنِي
فلأن
الشباب كاد ( يولي ) عن
الشاعر لغير عود ، فمن الطبعي أن يفوته القدر (المُوَالِي) ، الذي والاه ، وقد كان بصحبة الشباب طوع
أمره .
وهنا يرسم الجناس الناقص بين (يولي) و (المُوَالِي)
مفارقة فادحة في فعل الزمن بالشاعر ، وإيقاعه المر . ذلك أن القدر وقد فاته بأحلام
الشباب الجميلة ، فإنه يرميه في أتونها ، فما هي إلا أضغاث أحلام لفتى فاته - أو كاد
- زمن الشباب ، ولم يبق له فيه منها سوى ذكريات .
إن البيت
يعكس - في استظهار باطنه - سخرية من سخريات القدر ، نلمحها خلف المسكوت عنه من قوله
في آخر البيت : ( وَلَمْ يَفُتْنِي)
، فالقدر ( فاته ) يواجه
أحلام الشباب وفي الوقت نفسه ( لم
يفته ) ، إنها حيرة العواطف وحُميا قلقها في أن ( يفوته ) و ( لم يفته ) ، لتعلن بلاغة الحذف عن المسكوت عنه من أمر
هذه الحيرة ، فيما لا نهاية له من آفاق تأويل ذلك المسكوت عنه . إذ إن وطأة الزمن
/ الشباب المولي لم يفته ... ينعم ولو بتلك الأحلام ، ولو كانت أضغاثاً ، ليقف به في
منطقة من مناطق الأعراف ، ليتساوى أمام سطوة الزمن وسلطويته : فوته أو لا فوته ، فالمحصلة
مزيد من حيرة العواطف ، التي جلاها أكثر البيت السادس التالي :
كَأَنَّ صِبَايَ قَدْ رُدَّتْ رُؤاهُ
عَلَى جَفْنِي المُسَهَّدِ أَوْ كَأَنِّي
فلأن القدر الموالي فاته بأحلام الشباب ولم يفته
، على نحو ما أبان تحليلنا للبيت السابق ، فقد ألقت حيرته بظلالها في صورة جديدة على
البيت التالي ، بوحي يخاتله من أحلام الشباب ، التي فاته فيها قدره المولي – وليس الموالي
– ولم يفته ، وذلك حين شعر – على حين غرة من وخز زمن الشيخوخة – أن صباه قد ردت رؤاه
إلى حين ، على جفنه المؤرق شكاً / قلقاً / توجساً / زمناً / شيخوخة .
وهنا
تُوقفنا دلالة الفعل المبني للمجهول (رُدَّتْ) عند ما ينتج – إيحاء ومعنى – دلالات جديدة . ذلك أن رؤى الصبا
بكل ما تحمله من حلم الحب والتواصل والأمنيات ، كان ردُ فعلها وعودتها خارجياً ، وربما
قدرياً لا دخل للشاعر فيه ، إذ أصبحت أتراحه وأفراحه بيد القدر يفعل فيها ما يشاء
. وأنى شاء . وهنا يعلن قوله : (أَوْ
كَأَنِّي) عن المسكوت عنه – من أمر هذه الحيرة ، حيث يكون المسكوت عنه المحذوف
: ( أو كأني حالم أخذته سنةُ كاذبةُ من حلم الشباب ) ، وهو لم يزل قابعاً في شيخوخة
الشك والحيرة والهم ، ليعود الشاعر مع بيت جديد إلى دائرة الشك والحيرة من جديد ، حين
يخاطب محبوبه قائلاً :
يُكَذِّبُ فِيكَ كُلَّ النَّاسِ قَلْبِي
وَتَسْمَعُ فِيكَ كُلَّ النَّاسِ أُذْنِي
المؤرق
الشاك عبدالله الفيصل ، اتخذ من حاسة السمع – لا عجاً من لواعج الحيرة ، فإنه يكذب
ما يقوله الناس عن أمر خيانته ونقضه لمواثيق الهوى ، ولكنه في الوقت نفسه لا يستطيع
صد سمعه عما يتناقلونه من أمر خيانته ، ولكن بإعلانه وتقديمه لتكذيب قلبه قولهم فيه
، يجعل من كلامهم الذي يصك أذنه شيئاً هيناً وما هو بهين !! ، كما سنعرف من البيت التالي
:
ولكن
الإيقاع في ذلك البيت تصريعاً وترصيعاً – في حسن تقسيم – أدى دوراً غاية في الأهمية
في إبراز عواطف الشاعر الحائرة ، من خلال تساوي دقات الوافر ، مع دقات قلبه المتوفزة
، بصحبة مفارقة فادحة . ولنعايش هذا التساوي الإيقاعي ، الذي يقابله تباين معنوي ،
على النحو التالي : (يُكَذِّبُ
فِي = وَتَسْمَعُ فِي =
مفاعلتن ) ، ( ك كللننا =
ك كللننا = مفاعلتن ) ،
( س قَلْبِي = س أُذْنِي = فعولن ) . إن ، المكذب
– في زعمي – حين يكذب ، فإنما يندفع إلى التكذيب بقرائن يقتنع بها – في موضوعية – قلبه
يقينا ، وعينه إبصاراً ، وأذنه سمعاً ، ولكنه غيب البصر عن عمد ، لأنه لا يريد أن يرى
الخيانة بعينه ، ولا أن يسمعها بأذنه ، من حبيبه أفعالاً ، وإن سمح أن يسمع فيها كلام
الناس .
وهنا
تكمن المفارقة من خلال الأفعال وفواعلها ، ليتقارب إيقاع الموسيقى خارجية وداخلية ،
مع إيقاع المعنى الداخلي الكامن في ضمير الشاعر . إن ثمة تساوياً في البنى / الكلمات
في قوله : (فِيكَ كُلَّ النَّاسِ)
بين الشطرين ، ليظل المتغاير هو الأفعال وفواعلها ، من خلال الفعل (يُكَذِّبُ) المنتسب إليه الفاعل
(أُذْنِي) ، وبين تكذيب
القلب ، وسماع الأذن ، يغيب فعل الرؤية والرائي ، وهو الأهم في عملية التكذيب / الشك
/ التردد ، بما يعكسه الإيقاع / التفعيلات من صراع حائر بين تكذيب القلب ، وسماع الأذن
، لأن منطقية الأشياء تقول : إن المكذب لا يسمع كلام الناس ، بل يسمع صوت أذنه ، وإبصار
عينه رؤية ، وهنا قد يكشف تساوي الإيقاع عن تقارب تكذيب القلب ، وسماع الأذن ، فيما
يقوله الناس ، بما لا يُقر يقيناً ثابتاً ، في غيبة الرؤية وموضوعية الرؤى ،
رؤى
الفيصل يؤكدها قوله في البيتين التاليين :
وَكَمْ
طَافَتْ عَلَيَّ ظِلاَلُ شَكٍّ
أَقَضَّتْ مَضْجَعِي وَاسْتَعْبَدَتْنِي
كَأَنِّي طَافَ بِي رَكْبُ اللَيَالِي
يُحَدِّثُ عَنْكَ فِي الدُّنْيَا وَعَنِّي
إن
( كم الخبرية ) في بداية
أول البيتين توقفنا بما تدل عليه ، عند كثرة ما طاف عليه من (ظِلاَلُ شَكٍّ) ، وهنا تكمن مفارقة
جديدة مع ( كم الخبرية )
، التي تفيد كثرة ما طاف عليه من (ظِلاَلُ شَكٍّ) ، وليس الشك ذاته ، في شمولية ، وهذا يعمق الإحساس
بالحيرة ، التي هي ليست بشك خالص ، وليست بيقين خالص .
غدا
نكمل ونستمتع بنبض الحروف عندما تكون الأحرف غمام الروح .. وتفلت أعصاب الفيصل وهو
يواجه نفسه ومحبوبه ،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق