الخميس، 9 يناير 2014

عواطف حائرة 6/3

عواطف حائرة 6/3

الخميس 8 / ربيع الأول /1435هـ
Al-muneef .s. m                     عواطف حائرة 6/3

كلمات الامير الشاعر / عبدالله الفيصل ....غناء أم كلثوم
ثورة الشك
يبدو أنها تخيب وفق مسعى طال زمنه ، وكاد معه شبابه أن يولي إلى غير عود :

وَقَدْ كَادَ الشَّبَابُ لِغَيْرِ عَوْدٍ
يُوَلِّي عَنْ فَتَىً في غَيْرِ أَمْنِ

مرة أخرى يطل فعل المقاربة (كَادَ) ، ولكنه هنا بصحبة الزمن ، زمن الشباب / اسم كاد الذي يقاربه حدوثاً فعل التولي ، ليقربه إلى الشيخوخة / الموت / موت الحب / موت اليقين ، فبعد أن كان شبابه يخطو في البيت السابق بخطى الشباب المطمئن الآمن ، أصبح الشباب – في مفارقة تصويرية فادحة – يولي بفعل قهر الزمن ، في غير أمن واطمئنان ، ليدخل الشاعر بفعل الزمن مرة أخرى في دائرة الشك / الخيانة / القلق / غربة الروح / الشيخوخة / الحاضر القاتم / عبودية الحب . ويمكن أن تفيدنا المعاجم العربية شيئاً مهماً في نتاج الدلالة ، ففي المصباح المنير : ( الفتى : العبد ، وجمعه في القلة فتية وفي الكثرة فتيان... والأصل فيه أن يُقال للشاب الحدث، فتى ، ثم استعير للعبد وإن كان شيخاً ، مجازاً ، تسمية باسم ما كان عليه ) ولعل هذا يتسق على نحو من الأنحاء مع موقف شاعر شيخ ، أفنى زمناً - مسكوتاً عما حدث فيه - سعى فيه عبداً يستوثق من صدق موقف المحبوب من هواه !! .
وبدءاً من البيت الخامس ، يحتدم الصراع بين الزمن وعواطف الشاعر الحائرة ،متخذاً شكلاً درامياً ، ولكن الزمن يتشخص في صورة قدر ، رسم الشاعر صورته على النحو التالي :

وَهَا أَنَا فَاتَنِي القَدَرُ المُوَالِي
بِأَحْلاَمِ الشَّبَابِ وَلَمْ يَفُتْنِي

فلأن الشباب كاد ( يولي ) عن الشاعر لغير عود ، فمن الطبعي أن يفوته القدر (المُوَالِي) ، الذي والاه ، وقد كان بصحبة الشباب طوع أمره . 
وهنا يرسم الجناس الناقص بين (يولي) و (المُوَالِي) مفارقة فادحة في فعل الزمن بالشاعر ، وإيقاعه المر . ذلك أن القدر وقد فاته بأحلام الشباب الجميلة ، فإنه يرميه في أتونها ، فما هي إلا أضغاث أحلام لفتى فاته - أو كاد - زمن الشباب ، ولم يبق له فيه منها سوى ذكريات .
إن البيت يعكس - في استظهار باطنه - سخرية من سخريات القدر ، نلمحها خلف المسكوت عنه من قوله في آخر البيت : ( وَلَمْ يَفُتْنِي) ، فالقدر ( فاته ) يواجه أحلام الشباب وفي الوقت نفسه ( لم يفته ) ، إنها حيرة العواطف وحُميا قلقها في أن ( يفوته ) و ( لم يفته ) ، لتعلن بلاغة الحذف عن المسكوت عنه من أمر هذه الحيرة ، فيما لا نهاية له من آفاق تأويل ذلك المسكوت عنه . إذ إن وطأة الزمن / الشباب المولي لم يفته ... ينعم ولو بتلك الأحلام ، ولو كانت أضغاثاً ، ليقف به في منطقة من مناطق الأعراف ، ليتساوى أمام سطوة الزمن وسلطويته : فوته أو لا فوته ، فالمحصلة مزيد من حيرة العواطف ، التي جلاها أكثر البيت السادس التالي :

كَأَنَّ صِبَايَ قَدْ رُدَّتْ رُؤاهُ
عَلَى جَفْنِي المُسَهَّدِ أَوْ كَأَنِّي


 فلأن القدر الموالي فاته بأحلام الشباب ولم يفته ، على نحو ما أبان تحليلنا للبيت السابق ، فقد ألقت حيرته بظلالها في صورة جديدة على البيت التالي ، بوحي يخاتله من أحلام الشباب ، التي فاته فيها قدره المولي – وليس الموالي – ولم يفته ، وذلك حين شعر – على حين غرة من وخز زمن الشيخوخة – أن صباه قد ردت رؤاه إلى حين ، على جفنه المؤرق شكاً / قلقاً / توجساً / زمناً / شيخوخة .
وهنا تُوقفنا دلالة الفعل المبني للمجهول (رُدَّتْ) عند ما ينتج – إيحاء ومعنى – دلالات جديدة . ذلك أن رؤى الصبا بكل ما تحمله من حلم الحب والتواصل والأمنيات ، كان ردُ فعلها وعودتها خارجياً ، وربما قدرياً لا دخل للشاعر فيه ، إذ أصبحت أتراحه وأفراحه بيد القدر يفعل فيها ما يشاء . وأنى شاء . وهنا يعلن قوله : (أَوْ كَأَنِّي) عن المسكوت عنه – من أمر هذه الحيرة ، حيث يكون المسكوت عنه المحذوف : ( أو كأني حالم أخذته سنةُ كاذبةُ من حلم الشباب ) ، وهو لم يزل قابعاً في شيخوخة الشك والحيرة والهم ، ليعود الشاعر مع بيت جديد إلى دائرة الشك والحيرة من جديد ، حين يخاطب محبوبه قائلاً :

يُكَذِّبُ فِيكَ كُلَّ النَّاسِ قَلْبِي
وَتَسْمَعُ فِيكَ كُلَّ النَّاسِ أُذْنِي

المؤرق الشاك عبدالله الفيصل ، اتخذ من حاسة السمع – لا عجاً من لواعج الحيرة ، فإنه يكذب ما يقوله الناس عن أمر خيانته ونقضه لمواثيق الهوى ، ولكنه في الوقت نفسه لا يستطيع صد سمعه عما يتناقلونه من أمر خيانته ، ولكن بإعلانه وتقديمه لتكذيب قلبه قولهم فيه ، يجعل من كلامهم الذي يصك أذنه شيئاً هيناً وما هو بهين !! ، كما سنعرف من البيت التالي :
ولكن الإيقاع في ذلك البيت تصريعاً وترصيعاً – في حسن تقسيم – أدى دوراً غاية في الأهمية في إبراز عواطف الشاعر الحائرة ، من خلال تساوي دقات الوافر ، مع دقات قلبه المتوفزة ، بصحبة مفارقة فادحة . ولنعايش هذا التساوي الإيقاعي ، الذي يقابله تباين معنوي ، على النحو التالي : (يُكَذِّبُ فِي = وَتَسْمَعُ فِي = مفاعلتن ) ، ( ك كللننا = ك كللننا = مفاعلتن ) ، ( س قَلْبِي = س أُذْنِي = فعولن ) . إن ، المكذب – في زعمي – حين يكذب ، فإنما يندفع إلى التكذيب بقرائن يقتنع بها – في موضوعية – قلبه يقينا ، وعينه إبصاراً ، وأذنه سمعاً ، ولكنه غيب البصر عن عمد ، لأنه لا يريد أن يرى الخيانة بعينه ، ولا أن يسمعها بأذنه ، من حبيبه أفعالاً ، وإن سمح أن يسمع فيها كلام الناس .
وهنا تكمن المفارقة من خلال الأفعال وفواعلها ، ليتقارب إيقاع الموسيقى خارجية وداخلية ، مع إيقاع المعنى الداخلي الكامن في ضمير الشاعر . إن ثمة تساوياً في البنى / الكلمات في قوله : (فِيكَ كُلَّ النَّاسِ) بين الشطرين ، ليظل المتغاير هو الأفعال وفواعلها ، من خلال الفعل (يُكَذِّبُ) المنتسب إليه الفاعل (أُذْنِي) ، وبين تكذيب القلب ، وسماع الأذن ، يغيب فعل الرؤية والرائي ، وهو الأهم في عملية التكذيب / الشك / التردد ، بما يعكسه الإيقاع / التفعيلات من صراع حائر بين تكذيب القلب ، وسماع الأذن ، لأن منطقية الأشياء تقول : إن المكذب لا يسمع كلام الناس ، بل يسمع صوت أذنه ، وإبصار عينه رؤية ، وهنا قد يكشف تساوي الإيقاع عن تقارب تكذيب القلب ، وسماع الأذن ، فيما يقوله الناس ، بما لا يُقر يقيناً ثابتاً ، في غيبة الرؤية وموضوعية الرؤى ، 
رؤى الفيصل يؤكدها قوله في البيتين التاليين :

 وَكَمْ طَافَتْ عَلَيَّ ظِلاَلُ شَكٍّ
أَقَضَّتْ مَضْجَعِي وَاسْتَعْبَدَتْنِي

كَأَنِّي طَافَ بِي رَكْبُ اللَيَالِي
يُحَدِّثُ عَنْكَ فِي الدُّنْيَا وَعَنِّي

إن ( كم الخبرية ) في بداية أول البيتين توقفنا بما تدل عليه ، عند كثرة ما طاف عليه من (ظِلاَلُ شَكٍّ) ، وهنا تكمن مفارقة جديدة مع ( كم الخبرية ) ، التي تفيد كثرة ما طاف عليه من (ظِلاَلُ شَكٍّ) ، وليس الشك ذاته ، في شمولية ، وهذا يعمق الإحساس بالحيرة ، التي هي ليست بشك خالص ، وليست بيقين خالص .


غدا نكمل ونستمتع بنبض الحروف عندما تكون الأحرف غمام الروح .. وتفلت أعصاب الفيصل وهو يواجه نفسه ومحبوبه ،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق